مدخل

ظهرت مؤخرا العديد من الأعمال التي تُبرز الهُوية الوطنية، وتهدف إلى تقديم القديم بأساليبٍ جديدة، وأدواتٍ عالمية. الأبرز هنا، حضور الأفلام السينيمائية التي قدّمت العديد من الأماكن، اللهجات، المعمار، الأذواق، والفنون، الموجودة في الوطن، لكنّها كانت في الظّل، لا يعرفها كثير من أبناء المجتمع الذين يسكنون على بُعد ساعاتٍ عن كثيرٍ منها … ومن هنا يكون الانطلاق للعالم، محلّيا أوّلاً.

“مَحَارث – حكاية من الجنوب”

حصل هذا الفيلم الوثائقي القصير على جائزة أفضل تصوير سينيمائي في مهرجان أفلام السعودية. تبدأ القصة، حين يُصادف أربعة من الشباب صورةً لجبلٍ من الجنوب، فيبحثون عن المكان. يجدون أنّ الجبل يُسمى بجبل القَهَر، وهو جبل في محافظة الرّيث، شرق جازان. رتّبت مجموعة “داو” -كما يُطلق الشباب على اسم تجمّعهم- رحلتهم ليمرّوا بأربعين موقعاً للتصوير، على طريقٍ يشقّ الجنوب، في خلال سبعة أيام. يحكون أنّهم وصلوا إلى منطقةٍ لم يستطيعوا الصعود إليها بسيارتهم لوعورة الطريق. الصعود إلى القرية كان شبه مستحيل، إلاّ على عارفٍ بجغرافيّة المكان.
صعدت المجموعة إلى القرية التي ترتفع ثلاثة آلاف قدم، بصحبة قائد الطريق الذي نزل إليهم منها ليحملهم بسيارته. يحكون عن دهشة سُكّان القرية الصغيرة حين رأوهم بعدّتهم وأدواتهم الغريبة. اندهاش سكان القرية بأدوات التصوير، كاندهاشة الطفل برؤية شيء لأول مرة! .. كيف يمكن لطائر “Drones” أن يطير لينسخ ذات الأماكن التي يقطعها أحدهم في ساعات، ثمّ يعود ليُريَهم إيّاها!
حوت القرية على: أربعين ساكن، أغلبهم يعملون في المدينة، ثمّ يعودون لممارسة الزراعة، فقط لأنهم يُحبّون ممارستها. مبنىً صغير من الطّوب، كُتب عليه “بقالة” بالطّلاء الأحمر. مركزٌ صحّيّ يعمل ليومين في الأسبوع، لوعورة طريق الصعود والنزول منه وإليه. كان أغلب سُكّان القرية من ذات العائلة، وكان أحدهم بالذّات هو القصّة.
“فيصل المصغري”: شاب وقفت دراسته عند الثانوية، ولا يرغب بأعلى منها. يحلم بامتلاك مزرعته، والانتهاء من سدّه الذي يعكف على بنائه بيديه، ليحفظ الماء لعشر سنواتٍ كما يُشير في الفيلم. فيصل، مُتّصل بالطبيعة جدّا، إلى الحدّ الذي يرفض فيه أن يلبس حذاءً، فقط لأنّ ذلك سيمنعه من معرفة ما الذي يدوس عليه .. وهو لا يريد لشيء أن يحول بينه وبين حضور شعوره. فيصل، ليس مثالا على التراث وبيئة المكان فقط، بل هو درسٌ حيّ على الفلسفة والمعرفة الواضحة بما يريد لا ما يُراد له.
الكتابة عن الفيلم لا تُغني عن رؤيته، فالجُهد الذي بُذل على أيدي مُبدعيه يجعل الكلام انتقاصاً له.

“نوّاف النصّار”

بحكم أنّني غير متصل بمجال المعمار، فلم أُدرك وجوده إلاّ منذ فترةٍ قريبة، حين التقيته في أمسية ألقى فيها كلاما جديدا عليّ. هذا الرجل الفاضل، الذي مارس المعمار لثلاثين عاما، ودرسها على يد كبارٍ سمعنا عنهم كـ”زها حديد” مثلا، في بريطانيا، هو مثال قدير في التواضع والوعي بما يريد. حين يُمضي أحدهم سنواتٍ من الدراسة على يد مُصمّمين عالميين، ثم يعود ليقول “كُن محلّيا، تعامل بعالمية”، فستدرك أنّه وعى الأساليب والأفكار، لكنه لم يتخلّ عن المُحيط. المعماري نوّاف، كما يُحب أن يُسمّى، يُحافظ على التنقّل بين جنبات الوطن ليستقي ملامح أعماله وأفكاره، فالعودة إلى الجذور والأساسات تجعل الإنسان حميما مُتّصلا بمحيطه ولا يشعر بالغربة فيه. نوّاف، يحمل معرفةً تجعله مؤهّلا للقب “الأستاذ” .. سيمكنك التعلّم منه دائما.

“إِسكِلة”

للمرة الأولى التي أُقابل المُفردة وأُدرك معناها. “الإسكلة” هي الميناء، ويُقال عن جدّة أنها إسكلةُ مكة. والمكان الذي عُرضت فيه أفكار اليوم، كان ميناءً بحقّ … يكفي أنّ المكان الذي يُقدّم “مُنافسه” -انطلاقاً من مَنطِق السوق- يُفعّل قيمتيْ التّكامل والتعاون، ويجعلها أكثر من مجردِ فكرةٍ حسنة. لهذا، ولجمال تفاصيل المكان، احترمته وأصحابه.

هامش..

يتخيّل أحدنا أنّ الكتابة عن الأفكار الفلسفية الكبيرة، أوالمعمار، أوالفن، أوالتطوير، أوالتقاليد … إلخ، يجب أن تأخذ منحىً جديدا، وأنّ كاتبها أو المُتحدّث عنها يجب أن يأتي بجديد. وأعتقد أنّ هذا محضُ خيال كما أسلفت. أكبر إشكال في عالم المجتمع، أن يتعامل أحدهم بمبدأ أنّ الواقع لا يصلُح ويجب استبداله، على قاعدة: استمعوا إلى أفكاري فأنا أعرف مصلحتكم!
النّظر إلى الأشياء بزاوية جديدة، والعودة للأصول، هو ما يجعلنا نعي ما لدينا، وننطلق منه إلى كل شيء آخر، ونستوعبه من دون أن يأكلنا. ويمكن سحب هذا المنطق على كل الفنون بعموميّة نوعها، فالقاموس –الفكري واللّفظي- سيكون غريباً وغير مفهومٍ حين لا يكون مُرتبطاً بالمكان الذي يُوجّه إليه. فلا يجب أن يكون عالم الأفكار منفصلاً عن عالم الأشياء، لأنّ ارتباطهما هو الطريق الحتمي لأي تغيير أو تأثير. وكما يشير مالك بن نبي “لا يُخلق كائن حيّ يمشي ويعمل، بتجميع أربعة أطراف وجذع ورأس، جُلبت من المشرحة”، وهنا تكمن أهمّية فكرة السياق العام الذي تتوحد فيه الجهود نحو تحقيق هدفٍ ما.
الجانب النفسي للأفكار يرتبط مباشرة بالروح، فهو يُثبّتها ويُقوّيها ويجعلها حاضرة دائما، مهما اختلفت الظروف وتطوّرت الأساليب. وهنا أعودُ لما أشار إليه بن نبي: “مَن أعاد بناء ألمانيا بعد 1945م ليس العالِم ولا التقني، فضلا عن أنّ معظم العلماء والتقنيين مثل فون براون كان قد استولى عليهم الأمريكيون أو السوفييت وعَدّوهم غنائم حرب. إنّ من أعاد بناء ألمانيا هو الروح الألمانية، روح الراعي والفلاّح والعامل والحمّال والموظف والصيدلي والطبيب والفنان والأستاذ. وبكلمة واحدة، إنّ الثقافة الألمانية، دون التباس، ودون تضييق اجتماعي أو فكري لمعناها، هي التي أعادت بناء بلد غوته وبسمارك”. لا يمكن لأيّ مجتمعٍ إنسانيّ أن يستورد مُكوّناته، أو ينشئها على أيدٍ مجلوبةٍ من خارجه، أو أصواتٍ من أناسٍ آخرين، أو أعينٍ خارجية .. ترى في مجال حدودها الفكرية والثقافية.
ولأنّ التطور الاجتماعي لا يمكن أن يكون عملاً فرديا، فيجب أن يكون هناك ترابطٌ بين العناصر المنفصلة تحت مظلةٍ تجمعها، ليتماشى هذا مع التوقعات الوطنية لتحقيق رؤيةٍ نمضي نحوها. وأطمح أن يكون هناك مشروع وطنيّ تُجمع فيه الطاقات التي ترتبط مباشرةً بالهُوية التي تنطق بها البيئات. سيكون أمرا عظيما أن نرى للمعماريين الذين يرتبطون بالبيئة مباشرةً، مجتمعاُ شبيهاً بهيئة المهندسين مثلا، وهو ما سيُمهّد الطريق للكثير من التشريعات التي تُقلّل من غُربة المعمار على المدى البعيد في المجتمع.